التقييم الحالى لهذه الصفحة
تقييم الصفحة [ 24 اصوات]
المقال السابق
[المسلمون وإنجازات فريدة في الفيزياء بقلم د. راغب السرجاني]
سلسلة :مقالات الدكتور راغب السرجاني المقال التالي
[الحج ومشاهد يوم القيامة بقلم د. راغب السرجاني]
الكيمياء عند المسلمين بقلم د. راغب السرجاني تاريخ الإضافة:14-1-2009
لم يصبح علم الكيمياء - كما ذكرنا في المقال السابق - علمًا حقيقيًّا إلا بعد أن آل أمرها للمسلمين، وقد خرجوا بها من إطار النظرية التي نقلوها عن اليونان إلى التجربة والملاحظة والاستنتاج؛ وكان نتاج ذلك ذخيرة قيمة لم يحجبوها عن العالم، بل قدَّموها لمن خلفهم في العلم، فبنوا على أساسها صرح الكيمياء الحديثة.
فقد انتقلت الكيمياء مع المسلمين من طور البدايات المترجمة على يد خالد بن يزيد إلى طور الإنجازات العينية والاكتشافات الواضحة والإسهامات الإيجابية، وتبلور علم الكيمياء على أيديهم فيما بعدُ، وكثرت الاكتشافات التي كان من أهمها ما يلي:
المسلمون أول من استعمل الكيمياء في صناعة الدواء:
فقد كانت جميع الأدوية المعروفة قبلهم من الأعشاب الطبية، فأدخل الرازي لأول مرة استعمال أملاح المعادن، كالزئبق والمغنيسيوم والحديد والزنك في الدواء والعلاج، وصنع منها المراهم والسيوف والبرشام والمروخ، وكان الرازي يجرِّب هذه الأدوية على الحيوانات، وخاصةً القرود قريبة الشبه بجسم الإنسان.
كذلك كان ابن سينا أول من أوصى بتغليف حبوب الدواء بأملاح الذهب أو الفضة، وذلك في حالة إذا كان الدواء مُرَّ الطعم، أو إذا كان المطلوب عدم ذوبانه في المعدة بل في الأمعاء.
توسُّع المسلمين في الصناعات الكيميائية:
فهم أول من صنع الصابون من الصودا، وصنعوا منه الملون والمعطر والسائل والصلب، والكلمة الأوربية Savon أصلها عربي وهو صابون، وتذكر بعض المراجع أنهم أول من صنع الورق.
وقد توصل جابر بن حيان إلى صنع أنواع من الورق يقاوم الحريق، ويستعمل في تغليف المصاحف والكتب القيمة، كما ابتكر قماشًا يقاوم الماء. وتوصل عباس بن فرناس إلى تقليد البرق في القبة السماوية من اشتعال الماغنيسيوم؛ ففتح الطريق أمام التصوير الليلي، كما توصل إلى تقليد الرعد فيها باستعمال البارود، والمسلمون أول من استعمل البارود كقوة دافعة في المدافع.
كذلك برع المسلمون في صناعة الزجاج وطوَّروا منه أنواعًا على درجة من النقاوة والجودة. وقد ابتكر جابر بن حيان طريقة إضافة ثاني أكسيد المنجنيز إلى الزجاج لإزالة اللون الأخضر والأزرق الذي يظهر في الزجاج العادي الرخيص. ويعتبر عباس بن فرناس أول من صنع الزجاج البلوري (الكريستال!)، بإضافة بعض أملاح المعادن عليه كالرصاص والذهب والفضة لإضفاء البريق عليه.
كذلك ابتكر المسلمون المينا التي تتكون من مسحوق الزجاج الذي يخلط ببعض الأكاسيد المعدنية ثم يُذاب المخلوط في مادة زيتية حتى يتحول إلى سائل بالتسخين، ويرسم به رسومات بارزة على الزجاج ذات بريق وشفافية يرسمونها على القناديل وزجاج المساجد. وقد انتقل هذا الفن من الأندلس إلى أوربا، وانتشر في الكنائس وقصور الأمراء. كذلك ابتكر المسلمون الكثير من الأصباغ.
وقد اخترع المسلمون عددًا كبيرًا من المواد الكيميائية التي ما زالت تحمل الاسم العربي، وما زالت دعامة علم الكيمياء، فاخترعوا (الكحول) من التخمير، واستخرجوا الزيوت الطيارة بالتقطير، واكتشفوا الصودا، واستخرجوا السكر من عصير الفاكهة بوساطة عقدها على النار، ولا يزال اسمه Succar ، واستخرجوا الفلزات من المركبات الكيميائية, وصنعوا السبائك من معادن مختلفة.
وتعتبر صناعة الصلب العربي إحدى معجزات العلم العربي، فكانت السيوف العربية مضرب الأمثال في متانة معدنها وصفائها، وألَّفوا في ذلك عدة كتب منها: رسالة الكندي المتوفَّى سنة (866م) بعنوان: "فيما يطرح على الحديد والسيوف حتى لا تثلم ولا تكل". وقد أصدر قسم هندسة المواد في جامعة ستانفورد بالولايات المتحدة سنة 1984م نشرة أن علماءها توصلوا إلى سر صناعة الفولاذ الدمشقي الذي صنع منه العرب سيوفهم التي كانت مضرب الأمثال في التاريخ بحدة شفرتها, ونعومة سطحها, ومتانة معدنها، واكتشفوا أنها كانت تصنع من الصلب المخلوط بذرات كبريتيد الحديد الذي يتم إنتاجه بتعريض المعادن لدرجة حرارة منخفضة، بينما كانت المشكلة عند من سبقهم من العلماء والباحثين الذين أجروا دراساتهم على الصلب العربي أنهم كانوا يفرضون قدرًا كبيرًا من الحرارة أكثر من اللازم (عملية الحدادة).
وقد عرف المسلمون أن النار تنطفئ بانعدام الهواء، واكتشفوا الحامض والقلوي والفرق بينهما، وما زالت كلمة Alkali أصلها العربي القلوي. ومن أعظم إنجازات المسلمين اكتشاف الأحماض مثل: النيتريك والكلوريدريك، اكتشفهما الرازي سنة 932م، وكذلك الأحماض العضوية مثل الخليك والليمونيك والطرطريك والنمليك، وقد حضَّروا (الماء الملكي) الذي يذيب الذهب من نسبة معينة من حامض النيتريك (الزاج) وحامض الكلوريدريك (روح الملك) بنسبة 1: 3.
ورغم أن الكثير من كيميائِيِّي المسلمين قد صرفوا جهدهم ووقتهم في محاولة تحويل المعادن الرخيصة كالنحاس والرصاص إلى ذهب وفضة دون نتيجة، إلا أن هذه الجهود لم تذهب سُدًى؛ فقد توصلوا عن طريقها إلى الكثير من الاكتشافات والاختراعات التي طورت علم الكيمياء، كما أصبح المسلمون سادة صناعة الذهب والفضة في عصرهم، فبرعوا في صناعة السبائك والعملات الذهبية والفضية بنسبة دقيقة كانت مضرب الأمثال.
كما أنهم وضعوا القواعد لاكتشاف هذه النسب واكتشاف غش المعادن النفيسة كلها، وقد قام أحد علماء الكيمياء المعاصرين في أوربا هو الدكتور (فلندربتري) بتحليل نقود عربية ذهبية قديمة من مصادر مختلفة، فوجد أن نسبة السبيكة واحدة فيها جميعًا، ثم وزن العملات الثلاثة وهي بنفس القيمة فلم يجد فارقًا في الوزن أكثر من جزء من ثلاثة آلاف جزء من الجرام بين العملة ومثيلتها، ويقول في بحثه الذي نشره: "إن هذه دقة في الصنعة تفوق كل تصور".
كذلك برع المسلمون في علم دباغة الجلود وتحضيرها، واستنبطوا أنواعًا من الجلود تختلف من اللين والنعومة بحيث تصلح كملابس إلى الأنواع الصلبة التي تصلح أغلفة للسيوف والخناجر وأغلفة للمخطوطات، كما تفننوا في النقش بالألوان الثابتة على الجلد وفي الكتابة البارزة عليه، وما زالت هذه الصناعة في إسبانيا مزدهرة منذ عصور الإسلام.
أما صناعة الأصباغ والألوان والأحبار فيدلنا على تفوقهم فيها ما نراه اليوم من ألوان زاهية في القصور الإسلامية، مثل الحمراء وقصور إستانبول، وما نراه في أغلفة المصاحف الملونة. وقد ابتكروا مدادًا يضيء في الليل من المواد الفسفورية، وآخر يبرق في الضوء بلون الذهب من المرقشيشا الذهبية وهو (كبريتيد النحاس)، ليستخدم بدل الذهب الغالي في كتابة المصاحف والمخطوطات القيمة.
كما صنعوا أنواعًا من الطلاء الذي يمنع الحديد من الصدأ، واخترع جابر بن حيان مواد كيميائية تنقع فيها الملابس أو أوراق الكتابة فتمنع عنها البلل، ومواد أخرى تنقع فيها الملابس أو الورق فتصبح غير قابلة للاحتراق .
إنجازات المسلمين في علم الكيمياء وأثرها في الحضارة الغربية:
يقول المستشرق جوستاف لوبون: "إنه لولا ما وصل إليه العرب من نتائج واكتشافات ما استطاع لافوازييه أبو الكيمياء الحديثة أن ينتهي إلى اكتشافاته" .
فللإنجازات الرائدة كان للمسلمين في التدشين لعلم الكيمياء دورٌ بالغ الأهمية، بل لم يكن للعالم غِنًى عنه خاصة في أوربا؛ فقد استفاد الأوربيون من نظريات المسلمين وخبراتهم وتجاربهم في الكيمياء، وقاموا بترجمة كل كتب الكيمياء العربية إلى اللاتينية؛ ذلك أن المسلمين هم أول من وضع الأسس العلمية للكيمياء المبنية على التجارب، وكان لجابر بن حيان - كما سنرى في المقال القادم بعون الله - اليد الطولى في نشأة علم الكيمياء، وهو الذي نظم كثيرًا من طرق البحث والتحليل، وركَّب عددًا من المواد الكيماوية، وكانت أبحاثه هي المراجع الأولى في أوربا حتى القرن الثامن عشر .
وقد كان من مظاهر تأثر الحضارة الغربية بالمسلمين أو بالحضارة الإسلامية في مجال الكيمياء ما ظهر من اقتباس الأوربيين لكثير من المصطلحات الكيماوية العربية، والتي كان منها :
الكافور: Camphor . القلوي: Alkali .
الأنبيق: Alempic . الكحول: Alchol .
التوتيا: Tutry . الإثمد: Aktimany .
وتأثير المسلمين في مجال الكيمياء واضح في موسوعة (فانسيت دي بوقيه)، يقول الأستاذ مييرهوف: "إن المقالات المنسوبة إلى دي بوفيه مليئة بشواهد عن جابر". ولا أحد ينكر مدى أهمية هذه الموسوعة لدى الغرب.
وهناك تصريح ورد بالموسوعة البريطانية الطبعة الحادية عشرة يقول: عرفت أول صناعة لملح النشادر في مصر، ومنها تزودت أوربا سنين طويلة بهذا الملح، وكان أهل البندقية ثم الهولنديون من بعدهم أول من حمل هذه التجارة من مصر إلى أوربا. وأما الطريقة التي كان يصنع بها المصريون ملح النشادر فلم تكن معروفة في أوربا حتى سنة (1719م)، حين أرسل د.ليمير القنصل الفرنسي في القاهرة إلى الأكاديمية الفرنسية الطريقة التي يصنع بها هذا الملح في مصر.
وقد أنصف جوستاف لوبون المسلمين عندما قال: إن البحوث التي أجراها رينو وفافييه، والتي سبقهما إليها كاسيري وأندريه وفياردو، قد أثبتت بوضوح أن البارود ذا القوة الدافعة باعتباره مادة متفجرة تعمل على دفع القذائف اختراعٌ عربي أصيل لم يشارك العرب فيه أحد، لقد عرف العرب كيف يخترعون ويستعملون القوة الناشئة عن البارود، وهم - باختصار - الذين اخترعوا الأسلحة النارية .
ويقول ول ديورانت: "يكاد المسلمون يكونون هم الذين ابتدعوا الكيمياء بوصفها علمًا من العلوم؛ ذلك أن المسلمين أدخلوا الملاحظة الدقيقة والتجارب العلمية، والعناية برصد نتائجها في الميدان الذي اقتصر فيه اليونان - على ما نعلم - على الخبرة الصناعية والفروض الغامضة" .
وإن هذه الإنجازات وتلك الشهادات أولاً وأخيرًا إنما تعبِّر - في بعض ما تعبر عنه - عمَّا كانت عليه الحضارة الإسلامية من تقدم، وما كانت فيه من رقي، سعت من خلاله إلى خدمة البشرية جمعاء. ونسأل الله عز وجل أن يعز المسلمين، ويعيد لهم سالف مجدهم وحضارتهم.
تقييم الصفحة [ 24 اصوات]
المقال السابق
[المسلمون وإنجازات فريدة في الفيزياء بقلم د. راغب السرجاني]
سلسلة :مقالات الدكتور راغب السرجاني المقال التالي
[الحج ومشاهد يوم القيامة بقلم د. راغب السرجاني]
الكيمياء عند المسلمين بقلم د. راغب السرجاني تاريخ الإضافة:14-1-2009
لم يصبح علم الكيمياء - كما ذكرنا في المقال السابق - علمًا حقيقيًّا إلا بعد أن آل أمرها للمسلمين، وقد خرجوا بها من إطار النظرية التي نقلوها عن اليونان إلى التجربة والملاحظة والاستنتاج؛ وكان نتاج ذلك ذخيرة قيمة لم يحجبوها عن العالم، بل قدَّموها لمن خلفهم في العلم، فبنوا على أساسها صرح الكيمياء الحديثة.
فقد انتقلت الكيمياء مع المسلمين من طور البدايات المترجمة على يد خالد بن يزيد إلى طور الإنجازات العينية والاكتشافات الواضحة والإسهامات الإيجابية، وتبلور علم الكيمياء على أيديهم فيما بعدُ، وكثرت الاكتشافات التي كان من أهمها ما يلي:
المسلمون أول من استعمل الكيمياء في صناعة الدواء:
فقد كانت جميع الأدوية المعروفة قبلهم من الأعشاب الطبية، فأدخل الرازي لأول مرة استعمال أملاح المعادن، كالزئبق والمغنيسيوم والحديد والزنك في الدواء والعلاج، وصنع منها المراهم والسيوف والبرشام والمروخ، وكان الرازي يجرِّب هذه الأدوية على الحيوانات، وخاصةً القرود قريبة الشبه بجسم الإنسان.
كذلك كان ابن سينا أول من أوصى بتغليف حبوب الدواء بأملاح الذهب أو الفضة، وذلك في حالة إذا كان الدواء مُرَّ الطعم، أو إذا كان المطلوب عدم ذوبانه في المعدة بل في الأمعاء.
توسُّع المسلمين في الصناعات الكيميائية:
فهم أول من صنع الصابون من الصودا، وصنعوا منه الملون والمعطر والسائل والصلب، والكلمة الأوربية Savon أصلها عربي وهو صابون، وتذكر بعض المراجع أنهم أول من صنع الورق.
وقد توصل جابر بن حيان إلى صنع أنواع من الورق يقاوم الحريق، ويستعمل في تغليف المصاحف والكتب القيمة، كما ابتكر قماشًا يقاوم الماء. وتوصل عباس بن فرناس إلى تقليد البرق في القبة السماوية من اشتعال الماغنيسيوم؛ ففتح الطريق أمام التصوير الليلي، كما توصل إلى تقليد الرعد فيها باستعمال البارود، والمسلمون أول من استعمل البارود كقوة دافعة في المدافع.
كذلك برع المسلمون في صناعة الزجاج وطوَّروا منه أنواعًا على درجة من النقاوة والجودة. وقد ابتكر جابر بن حيان طريقة إضافة ثاني أكسيد المنجنيز إلى الزجاج لإزالة اللون الأخضر والأزرق الذي يظهر في الزجاج العادي الرخيص. ويعتبر عباس بن فرناس أول من صنع الزجاج البلوري (الكريستال!)، بإضافة بعض أملاح المعادن عليه كالرصاص والذهب والفضة لإضفاء البريق عليه.
كذلك ابتكر المسلمون المينا التي تتكون من مسحوق الزجاج الذي يخلط ببعض الأكاسيد المعدنية ثم يُذاب المخلوط في مادة زيتية حتى يتحول إلى سائل بالتسخين، ويرسم به رسومات بارزة على الزجاج ذات بريق وشفافية يرسمونها على القناديل وزجاج المساجد. وقد انتقل هذا الفن من الأندلس إلى أوربا، وانتشر في الكنائس وقصور الأمراء. كذلك ابتكر المسلمون الكثير من الأصباغ.
وقد اخترع المسلمون عددًا كبيرًا من المواد الكيميائية التي ما زالت تحمل الاسم العربي، وما زالت دعامة علم الكيمياء، فاخترعوا (الكحول) من التخمير، واستخرجوا الزيوت الطيارة بالتقطير، واكتشفوا الصودا، واستخرجوا السكر من عصير الفاكهة بوساطة عقدها على النار، ولا يزال اسمه Succar ، واستخرجوا الفلزات من المركبات الكيميائية, وصنعوا السبائك من معادن مختلفة.
وتعتبر صناعة الصلب العربي إحدى معجزات العلم العربي، فكانت السيوف العربية مضرب الأمثال في متانة معدنها وصفائها، وألَّفوا في ذلك عدة كتب منها: رسالة الكندي المتوفَّى سنة (866م) بعنوان: "فيما يطرح على الحديد والسيوف حتى لا تثلم ولا تكل". وقد أصدر قسم هندسة المواد في جامعة ستانفورد بالولايات المتحدة سنة 1984م نشرة أن علماءها توصلوا إلى سر صناعة الفولاذ الدمشقي الذي صنع منه العرب سيوفهم التي كانت مضرب الأمثال في التاريخ بحدة شفرتها, ونعومة سطحها, ومتانة معدنها، واكتشفوا أنها كانت تصنع من الصلب المخلوط بذرات كبريتيد الحديد الذي يتم إنتاجه بتعريض المعادن لدرجة حرارة منخفضة، بينما كانت المشكلة عند من سبقهم من العلماء والباحثين الذين أجروا دراساتهم على الصلب العربي أنهم كانوا يفرضون قدرًا كبيرًا من الحرارة أكثر من اللازم (عملية الحدادة).
وقد عرف المسلمون أن النار تنطفئ بانعدام الهواء، واكتشفوا الحامض والقلوي والفرق بينهما، وما زالت كلمة Alkali أصلها العربي القلوي. ومن أعظم إنجازات المسلمين اكتشاف الأحماض مثل: النيتريك والكلوريدريك، اكتشفهما الرازي سنة 932م، وكذلك الأحماض العضوية مثل الخليك والليمونيك والطرطريك والنمليك، وقد حضَّروا (الماء الملكي) الذي يذيب الذهب من نسبة معينة من حامض النيتريك (الزاج) وحامض الكلوريدريك (روح الملك) بنسبة 1: 3.
ورغم أن الكثير من كيميائِيِّي المسلمين قد صرفوا جهدهم ووقتهم في محاولة تحويل المعادن الرخيصة كالنحاس والرصاص إلى ذهب وفضة دون نتيجة، إلا أن هذه الجهود لم تذهب سُدًى؛ فقد توصلوا عن طريقها إلى الكثير من الاكتشافات والاختراعات التي طورت علم الكيمياء، كما أصبح المسلمون سادة صناعة الذهب والفضة في عصرهم، فبرعوا في صناعة السبائك والعملات الذهبية والفضية بنسبة دقيقة كانت مضرب الأمثال.
كما أنهم وضعوا القواعد لاكتشاف هذه النسب واكتشاف غش المعادن النفيسة كلها، وقد قام أحد علماء الكيمياء المعاصرين في أوربا هو الدكتور (فلندربتري) بتحليل نقود عربية ذهبية قديمة من مصادر مختلفة، فوجد أن نسبة السبيكة واحدة فيها جميعًا، ثم وزن العملات الثلاثة وهي بنفس القيمة فلم يجد فارقًا في الوزن أكثر من جزء من ثلاثة آلاف جزء من الجرام بين العملة ومثيلتها، ويقول في بحثه الذي نشره: "إن هذه دقة في الصنعة تفوق كل تصور".
كذلك برع المسلمون في علم دباغة الجلود وتحضيرها، واستنبطوا أنواعًا من الجلود تختلف من اللين والنعومة بحيث تصلح كملابس إلى الأنواع الصلبة التي تصلح أغلفة للسيوف والخناجر وأغلفة للمخطوطات، كما تفننوا في النقش بالألوان الثابتة على الجلد وفي الكتابة البارزة عليه، وما زالت هذه الصناعة في إسبانيا مزدهرة منذ عصور الإسلام.
أما صناعة الأصباغ والألوان والأحبار فيدلنا على تفوقهم فيها ما نراه اليوم من ألوان زاهية في القصور الإسلامية، مثل الحمراء وقصور إستانبول، وما نراه في أغلفة المصاحف الملونة. وقد ابتكروا مدادًا يضيء في الليل من المواد الفسفورية، وآخر يبرق في الضوء بلون الذهب من المرقشيشا الذهبية وهو (كبريتيد النحاس)، ليستخدم بدل الذهب الغالي في كتابة المصاحف والمخطوطات القيمة.
كما صنعوا أنواعًا من الطلاء الذي يمنع الحديد من الصدأ، واخترع جابر بن حيان مواد كيميائية تنقع فيها الملابس أو أوراق الكتابة فتمنع عنها البلل، ومواد أخرى تنقع فيها الملابس أو الورق فتصبح غير قابلة للاحتراق .
إنجازات المسلمين في علم الكيمياء وأثرها في الحضارة الغربية:
يقول المستشرق جوستاف لوبون: "إنه لولا ما وصل إليه العرب من نتائج واكتشافات ما استطاع لافوازييه أبو الكيمياء الحديثة أن ينتهي إلى اكتشافاته" .
فللإنجازات الرائدة كان للمسلمين في التدشين لعلم الكيمياء دورٌ بالغ الأهمية، بل لم يكن للعالم غِنًى عنه خاصة في أوربا؛ فقد استفاد الأوربيون من نظريات المسلمين وخبراتهم وتجاربهم في الكيمياء، وقاموا بترجمة كل كتب الكيمياء العربية إلى اللاتينية؛ ذلك أن المسلمين هم أول من وضع الأسس العلمية للكيمياء المبنية على التجارب، وكان لجابر بن حيان - كما سنرى في المقال القادم بعون الله - اليد الطولى في نشأة علم الكيمياء، وهو الذي نظم كثيرًا من طرق البحث والتحليل، وركَّب عددًا من المواد الكيماوية، وكانت أبحاثه هي المراجع الأولى في أوربا حتى القرن الثامن عشر .
وقد كان من مظاهر تأثر الحضارة الغربية بالمسلمين أو بالحضارة الإسلامية في مجال الكيمياء ما ظهر من اقتباس الأوربيين لكثير من المصطلحات الكيماوية العربية، والتي كان منها :
الكافور: Camphor . القلوي: Alkali .
الأنبيق: Alempic . الكحول: Alchol .
التوتيا: Tutry . الإثمد: Aktimany .
وتأثير المسلمين في مجال الكيمياء واضح في موسوعة (فانسيت دي بوقيه)، يقول الأستاذ مييرهوف: "إن المقالات المنسوبة إلى دي بوفيه مليئة بشواهد عن جابر". ولا أحد ينكر مدى أهمية هذه الموسوعة لدى الغرب.
وهناك تصريح ورد بالموسوعة البريطانية الطبعة الحادية عشرة يقول: عرفت أول صناعة لملح النشادر في مصر، ومنها تزودت أوربا سنين طويلة بهذا الملح، وكان أهل البندقية ثم الهولنديون من بعدهم أول من حمل هذه التجارة من مصر إلى أوربا. وأما الطريقة التي كان يصنع بها المصريون ملح النشادر فلم تكن معروفة في أوربا حتى سنة (1719م)، حين أرسل د.ليمير القنصل الفرنسي في القاهرة إلى الأكاديمية الفرنسية الطريقة التي يصنع بها هذا الملح في مصر.
وقد أنصف جوستاف لوبون المسلمين عندما قال: إن البحوث التي أجراها رينو وفافييه، والتي سبقهما إليها كاسيري وأندريه وفياردو، قد أثبتت بوضوح أن البارود ذا القوة الدافعة باعتباره مادة متفجرة تعمل على دفع القذائف اختراعٌ عربي أصيل لم يشارك العرب فيه أحد، لقد عرف العرب كيف يخترعون ويستعملون القوة الناشئة عن البارود، وهم - باختصار - الذين اخترعوا الأسلحة النارية .
ويقول ول ديورانت: "يكاد المسلمون يكونون هم الذين ابتدعوا الكيمياء بوصفها علمًا من العلوم؛ ذلك أن المسلمين أدخلوا الملاحظة الدقيقة والتجارب العلمية، والعناية برصد نتائجها في الميدان الذي اقتصر فيه اليونان - على ما نعلم - على الخبرة الصناعية والفروض الغامضة" .
وإن هذه الإنجازات وتلك الشهادات أولاً وأخيرًا إنما تعبِّر - في بعض ما تعبر عنه - عمَّا كانت عليه الحضارة الإسلامية من تقدم، وما كانت فيه من رقي، سعت من خلاله إلى خدمة البشرية جمعاء. ونسأل الله عز وجل أن يعز المسلمين، ويعيد لهم سالف مجدهم وحضارتهم.